" ياكلها التمساح و لا ياخدها الفلاح " .. عبارة شهيرى يرددها الأعرابى المصرى ليعبر بها عن انفته من أن تختلط دماؤه بدماء غير عربية .
و قد كان انتقال العرب من الجزيرة العربية للعيش فى البلاد المجاورة لها نتيجة لفتح هذه البلدان إسلاميا ، و كانت مصر أحد أهم تلك المهاجر التى قصدتها كثير منها القبائل العربية للسكنى عقب فتحها على يد فرقة عسكرية معظمها من العرب القرشيين على رأسهم عمرو بن العاص السهمى .
يقسم المؤرخون الهجرات العربية التى وفدت على مصر إلى قسمين ، القسم الأول شكله من كانوا يأتون مع الولاة و الحكام المعينون من قبل الخليفة حيث كان ياتى الوالى و معه أهله و ذووه و يقيمون إقامة كاملة أو مؤقتة ، أما القسم الثانى فتلك القبائل التى وفدت إلى مصر كلها أو أغلبها من هاربة من شظف العيش و باحثة عن الرزق و وجدت فى صحارى مصر المختلفة مسرحا مناسبا تمارس فيه تقاليدها و حياتها الأولى .
و لقد أثرت تلك النشاطات التى مارسها العربان فى المجتمع المصرى كثيرا خاصة عندما بلغوا أوج قوتهم العددية و المادية فى بداية القرن التاسع عشر ، و كثيرا ما كانت هجراتهم من و إلى مصر تحفل بالكثير من الأحداث الهامة التى سجلها الأدب الشعبى ، و ليس أشهر من سيرة بنى هلال و بنى سليم تلك القبيلتين اللتين استقدمتا من قبل الأمويين فى القرن الثانى الميلادى فسكنتا منطقة بلبيس فى محافظة الشرقية ، ثم استقدمهما مرة أخرى الفاطميون فى بداية القرن العاشر فحضروا من الجزيرة العربية إلى مصر عن بكرة أبيهم ثم ارتحل بعضهم إلى المغرب العربى .
و لقد كان للعربان دائما فى مصر سمات خاصة ميزتهم عن باقى فئات المجتمع المصرى ، فهم يعتزون إلى حد كبير بجذورهم العربية و حياتهم الصحراوية حتى أنهم كانوا إلى ما قبل القرن التاسع عشر يأنفون حياة الاستقرار و الزراعة ، بل و يعتبرون العمل بمهنة الزراعة و غيرها من الأعمال المدنية ضرب من الدناءة ، فالفلاحون خلقوا من وجهة نظرهم من أجل إطعام العربان ، و لعل هذه النظرة التى كنها العربان تجاه الفلاحين الذين كانوا الأغلية العظمى من المجتمع المصرى هى التى تفسر بقائهم لزمن طويل بعيدين عن الاندماج فى المجتمع المصرى بالتزاوج و لهم فى ذلك المثل المشهور : " ياكلها التمساح و لا ياخدها الفلاح " ، لكن العربان الذين امتلأت بهم الصحارى المصرية مع القرن الخامس الهجرى قد صاروا قوة ضاربة يعمل لها حساب حتى أنهم فى عهد صلاح الدين " أمروا بالبوق و القلم " أى أصبحت لهم كلمة فى الجيش و الديوان ، كما كان لهم موظف يختص بشئونهم فى عصر الدولة الأيوبية ، أما فى عهد المماليك فكان العربان قد بلغوا عددا عظيما بالوجهين البحرى و القبلى ، و مع ذلك فقد توقفت موجات هجرتهم بسبب الكراهية المتبادلة بينهم و بين المماليك و عدم خضوع العربان لسلطتهم ، بل إن العربان اجتمعوا و أقاموا أحد شيوخهم حاكما قائلين : " نحن أصحاب البلاد و نحن أحق بالملك من المماليك و كفى أننا خدمنا بنى أيوب و هم خوارج خرجوا على البلاد " ، و بالفعل حاول العربان إقامة أول دولة بدوية فى مصر عندما اشتركت جميع القبائل الموجودة فى مصر فى ثورة الأمير " حصن الدولة " التى استطاع المماليك إخمادها بصعوبة بالغة .
و بالرغم من أن علاقة العربان بالسلطة كانت عبارة عن تحد دائم ، فإن علاقاتهم مع المحكومين لم تكن أيضا هى الأخرى على ما يرام ، و لعل أكثر الفئات التى تضررت من ممارسات العربان فى وادى النيل و دلتاه كانت فئة الفلاحين ، حيث كانت غلالهم و مواشيهم و ثرواتهم دائما محل استهداف العربان المحيطين بالقرى المصرية فى الوجهين القبلى و البحرى ، و يكفى لوصف بشاعة ما كان يقوم به هؤلاء و هم يحصلون منهوباتهم من ضحاياهم ما قاله الجنرال أندريوس أحد قادة الحملة الفرنسية عندما سأل أحد شيوخ القرى قائلا : " هل حل الطاعون بقريتكم هذا العام ؟ " فأجاب : نعم ، مرتين فقد حل الطاعون و العربان " ، و قد اشتهرت من اقلبائل ممن يقومون بأعمال السلب و النهب ( بلى و الطميلات و الطرابين ) فى الشرقية و ( الهنادى و الفوايد ) بالفيوم و ( الطرابين و العايد و الحويطات ) فى طريق القوافل من القاهرة إلى السويس .
لكن و برغم كل ما استفاض المؤرخون فى ذكره حول عدوانية العربان تجاه جيرانهم من باقى المصريين فإن هناك ما كان يدل على أنهم و بغض النظر عن تلك العدوانية كانوا يعدون أنفسهم طيفا وطنيا من أطياف المصريين الذين يعنيهم الشأن المصرى بقدر ما لاسيما الشأن السيادى ، بمعنى أنه و إن كانت تعوزهم عاطفة قومية تجعلهم يشعرون بوحدة من نوع ما مع جيرانهم من سكان نفس القطر ، إلا أن العاطفة الدينية و اللغوية كانت تدفعهم للقيام بأعمال " وطنية " و " قومية " جليلة ، فى هذا الصدد يذكر كريستوفر هيرولد فى كتابه " بونابرت فى مصر " " أن العربان بدأوا فى ملاحقة الجنود الفرنسيين بهجماتهم بمجرد أن غادروا الأسكندرية ، و تخلف كثيرون لأنهم ماتوا من ضربة الشمس أما الذين ظلوا على قيد الحياة من المتخلفين فقد قتلهم العربان أو أسروهم " ، كما أن تعاون العربان مع المماليك بإيوائهم و إيصال المكاتبات السرية بينهم و بين أنصارهم فى القاهرة قد أفاد كثيرا حركة المقاومة ، حتى عندما اجتمع بونابرت بـ 13 من شيوخ العربان يطلب منهم التعاون مع الفرنسيين و إرجاع الأسرى نزل العربان على فتوى علماء القاهرة بعدم التعاون مع الفرنسيس و إعلان الجهاد ضدهم كما يقول كريستوفر هيرولد .
بل و يذكر المؤرخ " جومار " : " أنه كانت لدى العربان معلومات دقيقة عن الوديان فى الصحراء و كثيرا ما كانوا يرشدون الفرنسيين إلى طرق عكسية لتلك التى سار فيها المماليك حتى لا يتمكنوا من اللحاق بهم "
و لذلك فإن بونابرت عندما يئس من استمالة العربان كقوة ضاربة مصرية تجاه مشروعه نكل بهم ، و سلط عليهم عملاءه و عسكره ، حتى أن برطملين ينى الأرمنلى كان إذا قابل أيا من العربان فى طريق إحدى حملاته كان يعمد إلى تقطيع رقابهم دونما سؤال أو استفسار ، بل إن نابليون نفسه أمر بقتل ثلاثة من مشايخ العربان بحجة وجود كتابات معهم ضد الحملة ، و كان منهم الشيخ الشواربى شيخ قليوب و ثلاثة من مشايخ الشرقية .
غير أن عربان مصر كانوا على موعد مع التوطين بمجىء القرن الـ 19 ، فلقد رأى محمد على باشا أنهم قوة لا يستهان بها إذا ما وجهت لمصلحة مشروعه ، و أخذ على ذلك فى محاولة لتوطينهم من خلال منح شيوخهم الأبعاديات الزراعية الشاسعة ، و حضهم على الاستقرار فيها و نبذ حياة الترحال و العدوان بالترغيب و الترهيب ، حتى أنه كان يضطر أحيانا للإيقاع فيما بين القبيلتين للوصول إلى إضعافهما ، بل و كان يلجأ إلى استقدام شيوخ القبائل للمعيشة فى القاهرة كى يضمن ألا تثور عليه قبائلهم ، و هكذا و حتى بعد ان بذل محمد على جهدا جهيدا فى توطينهم فمنحهم الأراضى و الأبعاديات إلا أن بعض ممارساتهم بقيت تؤرق أصحاب الأراضى من الفلاحين فى دلتا مصر ، حيث تذكر جريدة الوقائع المصرية فى عددها 194 أغسطس 1830 أن : " أهالى الشرقية يعانون من استيلاء العربان على أراضيهم و اتلاف مواشى العربان لمزروعاتهم "
و قد كان محمد على على ثقة من أنه لن يتثنى إخضاع العربان إلا باستلاب خيولهم و مواشيهم ، و لقد دخل مع شيوخهم فى مفاوضات حول الأمر و تم تكليف ناظر العربان بجمع الخيل و الجمال اللازمة للمهمات الحكومية ، إلى أن وصل إلى استخدامهم عسكريا فى حملاته ، و لقد منحهم فى مقابل ذلك ما يسمى بـ ( امتياز العرب ) الذى يعفيهم من التجنيد الإجبارى و السخرة نظير وعد العربان له بتقديم الجند عند الطلب بواسطة العربان و كان الاستثناء من ذلك حالة الحرب التى كان تجنيدهم فيها إجباريا ، و قد بلغوا عددا كبيرا بلغ حسب الرافعى فى عام 1833حوالى 5370 جنديا من مجموع الجند البالغ عددهم 168889 أى بنسبة 3.1% ، و يشير المؤرخ : "هيلين ريفيلين " إلى شجاعة العربان و اقبالهم على العمل العسكرى فى جيش محمد على باشا على خلاف الفلاحين قائلا : " إن الفلاحين كانوا يؤثرون الهرب إلى سوريا أو إلى الصحراء لدى قبائل البدو أو إلى قرى بعيدة حتى ينجلى خطر التجنيد ، بينما كان العربان هم الأكثر شجاعة و اقبالا على ميادين القتال " و هم و برغم تمردهم على العمل العسكرى فى البداية إلا أنهم استطاعوا إحراز نجاحات فى ميادين القتال السيما فى الحجاز مع السلفيين و من أشهر قبائلهم التى سلكت العمل العسكرى ( أولاد على و الفوايد و الحرابى و الجوازى ) حيث كانت أهميتهم تكمن فى العلاقات الوطيدة بينهم و بين القبائل الأخرى فى الحجاز و غزة و السودان ، و اهم ما يذكر لهم فى هذا الصدد أنهم هم الذين أسروا السر عسكر رشيد باشا قائد قواد الجيش العثمانى فى موقعة قونية خلال حرب الشام الأولى .
بالتوطين أصبح العربان مكونا رئيسيا من مكونات الشعب المصرى ، و بالتوطين أصبح لهم دور جديد على الساحة الوطنية ، دور وصل أحيانا إلى درجة الريادة و الانفراد ، و لعل الكثيرين لا يعلمون أن شخصيات كجمال عبدالناصر و أحمد عرابى و عبدالله النديم و ابراهيم عبدالقادر المازنى و حمد الباسل و الشيخ الأحمدى الظواهرى تنتمى لتلك القبائل التى ظلت تخرب و تهلك الحرث و النسل لعهود طوال ، و عموما فقد تلا التوطين اندماج ثم ذوبان كلى ، و أيا كان ذلك الذوبان كليا أو جزئيا فإنه على كل حال ترك طعما و نكهة فى مركب كيمياء مصر المعقد الذى مازال غير مشبع .